
في ظل توجيهات القيادة السياسية المصرية لتعزيز مسيرة التحول الصحي، أطلقت هيئة الرعاية الصحية مشروع “الرعاية الصحية المرتكزة على المريض لتحقيق التغطية الصحية الشاملة” (E-PaCC) بالتعاون مع الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (JICA)، في حضور رموز متعددة من مؤسسات الدولة والعالمية. هذا الإعلان يمثل محطة استراتيجية جديدة تهدف إلى رفع جودة الخدمات الصحية وجعلها أكثر شمولية في مواجهة التحديات المعاصرة، إلى جانب تعزيز تبادل الخبرات بين البلدين.
شراكة مثمرة بين مصر واليابان لتطوير المنظومة الصحية
أكد الدكتور أحمد السبكي، رئيس هيئة الرعاية الصحية، أن مشروع E-PaCC هو امتداد طبيعي للشراكة المثمرة مع JICA، التي بدأت منذ عام 2018 بتنفيذ مشروع “تحسين الجودة بالمستشفيات العامة” (EH-QIPS). وخلال هذه الفترة، تم تطبيق نماذج الجودة اليابانية (مثل 5S وKAIZEN) في 50 مستشفى عام، وتدريب أكثر من 1200 موظف في مجال الحوكمة وسلامة المرضى، ما أسهم في خفض معدلات الضرر بنسبة 40% وبناء ثقافة مؤسسية تضع المريض في قلب التطوير.
وأوضح أن المشروع الجديد يهدف إلى توسيع نطاق تطبيق نموذج الرعاية المتمركزة حول المريض، ليشمل 20 مستشفى، و10 محافظات، وأكثر من 500 وحدة رعاية أولية. هذا التوسع يُعد خطوة متقدمة نحو تحقيق التغطية الصحية الشاملة، حيث يركز على تحسين تجربة المريض عبر أدوات مبتكرة مثل “حوار رحلة المريض” (PJD) ومنظومة “الإبلاغ عن الحوادث المتغيرة” (OVR).
تطوير البنية التحتية والتركيز على كرامة المريض
من جانبه، أشار الدكتور محمد عوض تاج الدين، مستشار رئيس الجمهورية لشؤون الصحة والوقاية، إلى أن التعاون مع اليابان لم يعد مجرد تعاون فني، بل يمثل نموذجًا للشراكة القائمة على المعرفة والخبرة. وأكد أن التطور في منظومة التأمين الصحي الشامل لم يقتصر على تقديم الخدمات فقط، بل شمل أيضًا رفع كفاءة النظام الصحي، وهو ما يُعتبر عنصرًا حاسمًا في تقديم خدمات متكاملة وآمنة تواكب المعايير الدولية.
هذا الاهتمام بالجودة والسلامة يتجلى أيضًا في توأمة مستشفى الإسماعيلية التخصصي مع مركز ناغويا الطبي الياباني، حيث تهدف هذه الشراكة إلى تبادل الخبرات وتوطين أفضل الممارسات الإكلينيكية. كما تمثل البرامج التدريبية التي أُتيحت للكوادر الطبية المصرية في اليابان خطوة هامة في صقل المهارات وتوسيع الآفاق، ما مكّنهم من قيادة التغيير المؤسسي داخل المنظومة الصحية.
إنجازات المرحلة الأولى: 70 مليون خدمة لـ 5 ملايين مواطن
خلال المرحلة الأولى من مشروع E-PaCC، تم تقديم أكثر من 70 مليون خدمة طبية وعلاجية لأكثر من 5 ملايين مواطن في ست محافظات تشمل بورسعيد والإسماعيلية والسويس وجنوب سيناء والأقصر وأسوان. هذه الخدمات تم تقديمها عبر منشآت صحية مطورة رقميًا ومتطلبة للبنية التحتية الحديثة، مما أسهم في تحسين كفاءة العمل وزيادة رضا المرضى.
ومن بين الإنجازات البارزة، حصول 80% من 336 منشأة صحية على اعتماد الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية، بالإضافة إلى اعتماد مستشفى شرم الشيخ الدولي ومجمع الإسماعيلية الطبي من اللجنة المشتركة الدولية (JCI). هذه الإنجازات جسّدت الالتزام بمعايير الجودة، وتم توجيهها بحصول الهيئة على الميدالية الذهبية من الاتحاد الدولي للمستشفيات لتميزها في التأثير الاجتماعي والبيئي.
الدور المحوري لGAHAR في ترسيخ معايير الرعاية المتمركزة حول المريض
أكد الدكتور أحمد طه، رئيس الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية (GAHAR)، أن الرعاية المتمركزة حول المريض لم تعد خيارًا، بل أصبحت معيارًا عالميًا للرعاية الآمنة والفعالة. وشرح أن GAHAR تضطلع بدور رئيسي في ترسيخ هذا المفهوم عبر إصدار وتطبيق 8 أدلة معايير وطنية معتمدة دوليًا، من بينها دليل اعتماد المستشفيات الذي يضع المريض في صميم الإجراءات الإدارية والطبية.
وأشار إلى أن هذا الإطار يضمن استمرارية الرعاية وتحقيق تجربة علاجية آمنة، إلى جانب بناء ثقافة للسلامة والحوكمة من خلال وحدات متخصصة. كما تُعنى GAHAR بمتابعة رضا المنتفعين عبر تحليل التغذية الراجعة، مما يساعد في تحسين الخدمات بشكل مستمر.
الشراكة مع اليابان: نقل الخبرات والابتكار
من جهته، أعرب السفير الياباني لدى مصر، إيوائي فوميو، عن اعتزازه بالشراكة المتنامية مع مصر في قطاع الصحة، مشيرًا إلى أن E-PaCC يعكس عمق العلاقات الاستراتيجية بين البلدين. وأشاد بأهمية دعم جهود مصر لبناء نظام صحي شامل وفعال، مؤكدًا أن تمكين المرضى وتحسين جودة الرعاية يُعد أولوية مشتركة.
وأضاف: “نحن فخورون بأن نكون جزءًا من هذه المبادرة الطموحة، وملتزمون بمواصلة دعمنا لتحقيق أهداف التغطية الصحية الشاملة في مصر، ونعلم أن هذه الجهود ستُعيد تعريف مفهوم الرعاية الصحية في المنطقة”.
أداة OVR: رصد السلامة الصحية بشكل لحظي
واحدة من أبرز أدوات مشروع E-PaCC هو منظومة “الإبلاغ عن الحوادث المتغيرة” (OVR)، التي تتيح رصدًا لحظيًا لحوادث السلامة الصحية وتحليل أسبابها بشكل وقائي. هذا الأسلوب يعزز ثقافة استباقية لإدارة المخاطر داخل المنشآت الصحية، مما يسهم في تقليل الأخطاء وتحسين تجربة المريض.
كما تضمن المشروع تطبيق “حوار رحلة المريض” (PJD)، الذي يركز على فهم تجربة المريض من وجهة نظره، مما يساعد في تحسين نقاط التواصل داخل المنشآت وزيادة رضاهم. هذه الأدوات لا تقتصر على التحسين التقني، بل تُعزز من التفاعل الإنساني بين المرضى وأخصائي الرعاية الصحية.
التحول الرقمي: مكون أساسي في مشروع E-PaCC
يعتمد مشروع E-PaCC على التحول الرقمي كأحد المكونات الأساسية، حيث يتم استخدام أنظمة ذكية وسجلات طبية إلكترونية وتشخيصات مدعومة بالذكاء الاصطناعي. هذه التقنيات تمكن المرضى من اتخاذ قرارات مستنيرة بشأن حالتهم الصحية، كما تُسهّل على الأطباء إجراء المراجعات بشكل دقيق.
ومن خلال هذه الأدوات، تُسهم المنظومة في تعزيز الشفافية والمشاركة في القرار العلاجي، وفقًا لميثاق حقوق المريض المصري. هذا الإطار يُسهم في بناء ثقافة مؤسسية قوية تُفضل المريض في كل خطوة من خطوات العمل.
مستقبل التغطية الصحية الشاملة: المرحلة الثانية في 2026/2025
من المتوقع أن تبدأ المرحلة الثانية من مشروع E-PaCC خلال العام المالي الجديد 2026/2025، وستشمل محافظات مطروح ودمياط وكفر الشيخ والمنيا وشمال سيناء. هذه المرحلة ستقدم خدمات صحية لـ 12 مليون مواطن عبر 534 وحدة رعاية أولية و30 مستشفى مطورة تضم أكثر من 10,500 سرير.
وأشار الدكتور أحمد السبكي إلى أن هذه الخطوة ستُعيد تعريف مفهوم الرعاية الصحية في مصر، حيث ستكون مدعومة ببنية تحتية حديثة وتدريبات مستمرة على أحدث الممارسات الإكلينيكية. كما أن توسيع النموذج إلى مناطق جديدة يعكس التزام الدولة بتحقيق العدالة في توزيع الخدمات الصحية.
الدعم الدولي: شراكة تليق بمعايير الجودة العالمية
أكد الممثل الرئيسي لمكتب JICA في القاهرة، يو إيبيساوا، أن مشروع E-PaCC يمثل مرحلة جديدة في التعاون الفني بين الوكالة والهيئة العامة للرعاية الصحية. وأضاف أن النموذج يتميز بالقدرة على التوسع ونقل الخبرة اليابانية إلى السياق المصري بشكل فعّال.
وأشار إلى أن JICA تؤمن بأن هذا المشروع سيكون نموذجًا يُحتذى به في المنطقة، وستعمل على ضمان تحقيق الأثر المرجو على أرض الواقع. هذا الدعم الدولي يُؤكد على أهمية الشراكة في تطوير منظومة صحية متكاملة تُراعي معايير الجودة العالمية.
خلاصة: توجه نحو مستقبل صحي أكثر شمولية
في ختام الحديث، يمكن القول إن مشروع E-PaCC يُعد مثالًا على كيف يمكن لشراكات متعددة الأطراف أن تحقق أهدافًا كبيرة في قطاع الصحة. من خلال التركيز على المريض كمركز رئيسي، يسعى المشروع إلى تحسين جودة الخدمات وزيادة رضا المواطنين، مع الحفاظ على معايير السلامة والشفافية.
هذا التحول لا يقتصر على تطوير البنية التحتية فحسب، بل يشمل أيضًا بناء ثقافة مؤسسية تُفضل المريض في كل خطوة من خطوات العمل. وبحسب التقارير، فإن هذه المبادرة ستُحدث تغييرًا جذريًا في نمط تقديم الرعاية الصحية، مما يُعيد تعريف مفهوم التغطية الشاملة في مصر.
آفاق مستقبلية: توسعة النموذج ودعمه من قبل الجهات العالمية
الشراكة مع JICA ليست مجرد مشروع فني، بل تُعد استثمارًا طويل الأمد في بناء منظومة صحية قوية. ووفقًا للرئيس السبكي، فإن هذه الشراكة ستُساهم في توظيف الموارد البشرية والتقنية بطريقة أكثر فاعلية، مع تعزيز الدور المناط بالهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية (GAHAR) في رصد التطورات وضمان التزام المنشآت بالمعايير.
كما أن حضور ممثلي منظمة الصحة العالمية والوزارات المعنية يعكس أهمية المشروع على المستوى المحلي والدولي، حيث يسعى إلى تبني نماذج تُلائم الظروف المصرية، مع الحفاظ على المعايير العالمية. هذه الخطوة ستُساهم في تحسين صورة مصر كمركز للتميز في قطاع الرعاية الصحية.
خلاصة تفكيرية: هل يحقق E-PaCC أهدافه؟
في ظل التحديات التي تواجه قطاع الصحة في مصر، مثل تزايد أعداد المرضى وتباين جودة الخدمات، يُعد مشروع E-PaCC خطوة جريئة نحو المستقبل. من خلال تطبيق نماذج التحسين المستمر (KAIZEN) وتعزيز التفاعل بين المريض والمنشآت، يهدف المشروع إلى تحسين تجربة العلاج بشكل ملموس.
وإذا نجح في تعميم النموذج على كافة المحافظات، فإنه سيساهم في تحقيق العدالة في الوصول إلى الخدمات الصحية،