
في زقاق ضيق بوسط القاهرة تجلس أم حسن على كرسي خشبي أمام باب شقتها المتآكل لا تعرف متى بدأت تسكن هذا المكان، ولا تتذكر بالضبط كم تدفع، لكن أوراق الإيجار تقول إنها خمسة جنيهات شهريًا، كانت تدفعها منذ كان رغيف الخبز بقرشين والليمون لا يتجاوز الشلن، ورغم تقلب الأزمنة بقي البيت كما هو، وبقي العقد كما هو، لم يتغير شيء سوى أن العمر مضى والبنايات شاخت وصوت الحكومة والبرلمان عاد من جديد.
رغم أن صوت أم حسن لا يصل إلى قبة البرلمان، ولا الموضوع الذي تقرأه الآن سيكلف أحدًا من الجالسين تحتها عناء الالتفات إليه، كانت جلسة اليوم مشتعلة بالتفاصيل والاعتراضات حول قانون الإيجار القديم، امتدت لأكثر من أربع ساعات، واختلفت الآراء بين من يرى في القانون إنقاذًا للمالكين، ومن يخشى أن يكون تهديدًا صامتًا لملايين الأسر مثل أم حسن، وفي نهاية اليوم لم يُحسم شيء، وتقرر تأجيل الجلسة ليوم غد.
في شقة أم حسن، لا توجد أوراق كثيرة؛ فقط عقد إيجار باهت، وبعض الفواتير القديمة وصورة لزوجها الراحل في إطار مائل على الحائط، وحين سُئلت عن خططها بعد إقرار القانون قالت: “إحنا مش بنفكر في بكرة، إحنا يدوب عايشين اليوم بيومه، وطول ما السقف فوقينا بنحمد ربنا”.
عقد مجمد
ذلك القانون، الذي ظل حبيس الأدراج لعقود قانون تتحكم في مصير ملايين المصريين وأوجد وضعًا فريدًا حيث يدفع البعض إيجارًا زهيدًا لا يكفي لصيانة مصعد أو حتى تغيير لمبة في مدخل عمارة، بينما يقف الآخر عاجزًا أمام عقار يملكه ولا يستطيع إصلاحه ولا يملك حق زيادته ولا حتى استرداده، ويرى في كل يوم يمر خسارة.
كل طرف يرى أنه مظلوم، وبينهما قانون تجمد أكثر من نصف قرن، فالمالك يرى أن ما يملكه أصبح بلا قيمة، والمستأجرون سيواجهون قيم إيجارات في السوق خارج متناول كثير من الأسر، ومع ارتفاع الأسعار بات الخروج من شقة الإيجار القديم مخاطرة لا يقدر عليها كثيرون لا لأنهم يفضلون البقاء فحسب بل لأن البديل قد يكون أبعد من قدرتهم وأثقل من طاقتهم.
تأجلت مناقشة مشروع قانون الإيجار القديم إلى جلسة الغد، والسبب هذه المرة ليس خلافًا سياسيًا ولا صراعًا أيديولوجيًا، بل بسبب: غياب البيانات السليمة.
أرقام من الماضي
النواب، من الأغلبية والمعارضة، وجدوا أنفسهم يناقشون قانونًا مصيريًا اعتمادًا على بيانات صادرة منذ عام 2017، وكأن السنوات السبع التي تلتها لم تمر، وكأن الإيجارات والأسعار والسكان والزمن نفسه قد قرر أن يتجمد احترامًا لآخر التقارير الصادرة في هذا الشأن.
تقول الأرقام إن عدد قاطني الإيجار القديم يصل إلى 1.6 مليون أسرة، أي نحو 6 ملايين مواطن، وإن 36% منهم يدفعون أقل من 50 جنيهًا شهريًا.
أرقام تثير الشفقة لا بسبب فقرها، بل لأنها ما زالت تُستخدم في صياغة قوانين ستُغير شكل علاقة سكنية متجذرة في كل شارع وزقاق وحتى الأحياء الراقية.
أقرأ هنا قصص أخرى:
الإيجار القديم.. الغلاء يستنزف الملاك والمستأجرين
ملامح القانون
مشروع القانون الجديد ينص على إنهاء العلاقة الإيجارية القديمة بعد فترة انتقالية تمتد سبع سنوات للوحدات السكنية، وخمس سنوات للتجارية. وخلال هذه الفترة سيتم رفع القيمة الإيجارية تدريجيًا بناء على تصنيف المناطق.
وتُقسم العقارات إلى متميزة ومتوسطة واقتصادية القيمة سترتفع إلى خمسة أضعاف في المناطق الاقتصادية وعشرة أضعاف في المتوسطة وعشرين ضعفًا في المتميزة مع حد أدنى لا يقل عن 250 جنيهاً وأقصى يصل إلى 1000 جنيه بحسب تصنيف اللجنة المحلية لكل محافظة وتضاف زيادة سنوية ثابتة بنسبة 15% بعد تطبيق الزيادة الأولية.
أسئلة القلق
تؤكد الحكومة أن القانون لا يستهدف الإخلاء بل يستهدف العدالة وإن المدة الانتقالية تكفي لتوفيق الأوضاع، لكن في الشوارع الخلفية لا تُقرأ القوانين بهذه اللغة؛ أصحاب المعاشات يسألون :ماذا بعد السنوات السبع؟ وأين يذهب من لا يملك سوى معاش لا يتجاوز ألفي جنيه؟ ومستأجرون يسألون: هل ستوفر الدولة سكنًا بديلًا أم ستُترك الأسر لمصيرها في مواجهة السوق الذي لا يرحم كبار السن ولا محدودي الدخل؟
وبحسب مشروع القانون، يُمنح المستأجر أو من امتد إليه عقد الإيجار أولوية في الحصول على وحدة بديلة من الدولة، سواء بنظام الإيجار أو التمليك، شريطة التقدّم بطلب رسمي مرفق بإقرار إخلاء، وهو ما يُعد خطوة تنظيمية، لكنها تتطلب وضوحًا في آليات التنفيذ لضمان الطمأنينة لدى الفئات الأضعف.
ورغم أن الجدل العام يركز غالبا على المستأجرين بوصفهم الطرف الأضعف، إلا أن الواقع أكثر تنوعًا وتعقيدًا، فهناك نسبة غير قليلة من المستأجرين في ظل الإيجار القديم يمتلكون في الوقت نفسه عقارات أخرى أو يعيشون في وحدات مميزة بمواقع استراتيجية داخل المدن، بينما لا يدفعون سوى مبالغ رمزية لا تتناسب مع موقع الوحدة أو قيمتها السوقية
عدالة صعبة
وفي المقابل يقف أصحاب العقارات على الجانب الآخر يحكون عن أبراج وسط البلد التي لا تدخل لهم إلا عشرات الجنيهات وعن شقق يسكنها الورثة منذ خمسين عامًا دون أن يضيفوا قرشًا واحدًا للإيجار وعن بنايات انهارت أو تهالكت لأن المالك لا يستطيع إصلاحها ولا إخراج المستأجرين يرون في التعديل إنصافًا وعودة لحق تم مصادرته لعقود.
لكن قصة أم حسن ليست استثناء، بل هي عنوان أيضاً لحال شريحة واسعة من المصريين الذين يعيشون في وحدات قديمة بعقود إيجار أقدم، ولا يستطيعون مواجهة ارتفاعات الأسعار.
اقرأ أيضًا:
محطات حاسمة في مشروع قانون الإيجار القديم
وعلى مدى سنوات، ظل الجدل يدور حول من هو الطرف الأكثر تضررًا: هل هو المالك الذي لا يستطيع ترميم عقاره ولا زيادة الإيجار؟ أم المستأجر الذي قد يفقد مأواه فجأة؟ وبين الحقوق القانونية والاعتبارات الاجتماعية.
الحقيقة المؤكدة في هذا الملف المعقد، أن الوصول إلى حل عادل أمرًا ليس سهلًا على الإطلاق؛ فكل محاولة إصلاح كانت تصطدم بحساسيات اجتماعية وغياب رؤية متكاملة، واليوم، يعود هذا الملف إلى الواجهة، مع مشروع قانون يحمل ملامح التغيير، لكنه يثير أيضًا الكثير من الجدل والأسئلة.
The post الإيجار القديم.. حياة معلقة تحت قبة البرلمان appeared first on Economy Plus.